إن الزَّمَانَ بمثلهم لَبَخيلُ!! - 18 نوفمبر 2020

صحيفة الجزيرة

إن الزَّمَانَ بمثلهم لَبَخيلُ!! - 18 نوفمبر 2020

2021-10-08    456

وصلت إلى مدينة (أبريست ويست) الواقعة في مقاطعة ويلز البريطانية أول مرة بغرض الدراسة في نهاية شهر أكتوبر من عام 1987م، وصلت بصحبة ذلك المسلم الهندي الذي دلني على طريق الفندق، الواقع أمام محطة القطار في وسط المدينة، كان الفندق محجوزاً من قبل عن طريق المشرفة على دراستي البروفسورة سيلفيا. حين وصلت كان الشتاء قارساً، والمطر غزيراً، وكلما حاولت الذهاب إلى الجامعة لتقديم أوراقي حبسني المطر، وتريثت رجاء أن يخف ولو قليلاً، حتى مرت ثلاثة أيام! اتصلت بعدها المشرفة بالفندق وسألت عني، فأخبروها أني وصلت ووصلوها بي فقالت معاتبةً: لماذا لم تأت إلى الجامعة، فقلت لها: أنتظر أن تهدأ الأمطار! فضحكت وقالت: إذن ستبقي في الفندق إلى نهاية بعثتك! اشتر مظلة ولباساً واقياً وتعال غداً، فالأمطار عندنا هكذا طوال العام. استقبلتني هذه السيدة الفاضلة في اليوم التالي وهيأت لي أوراقي وإجراءاتي، وعملت لي زيارة للجامعة لتعريفي بالمكتبة والقسم وأماكن النشاط والعمادات المساندة. أعطتني جدولاً بالمؤتمرات التي تعقد سنوياً ولها علاقة بتخصصي، كما زودتني ببرنامج للمحاضرات العامة والمناقشات العلنية في القسم والكلية والجامعة. خصصت لي يوم الجمعة من كل أسبوع الساعة العاشرة صباحًا لمقابلتها، وطوال مدة دراستي لم آت يومًا إلى مكتبها إلا وهي تنتظرني.

كانت المشرفة على دراستي البروفسورة سيلفيا إحدى تلميذات العالم الإحصائي الشهير ديفيد لندلي الملقب بعالم القرن، كانت نموذجاً مشرقاً للأستاذ الجامعي الجاد المتمكن من مادته، والحريص على تعليم طلابه وتربيتهم أيضاً، كانت تمتلك حس المسؤولية وتشعر أنها مسؤولة فعلاً عن طلابها، ولذلك كانت تبذل من وقتها وجهدها وعلمها ما تضمن معه مستوىً علمياً لائقاً لطلابها وطالباتها. هذه المشرفة الحريصة على طلابها كانت وقتها في العقد السابع من عمرها! ورغم هذا السن، ورغم أنها كانت تعمل مع الجامعة بدوام جزئي! إلا أنها كانت تشرف على ستة طلاب، وتعطيهم وقتاً كافياً، وكانت مع ذلك نشيطة تمارس رياضة صعود الجبال وتحثنا عليها! ولو أننا- أساتذة الجامعات- أخذنا أنفسنا بهذا الجد والاجتهاد وتولينا طلابنا بمثل هذه الرعاية لكنا وجدنا من النتائج والثمرات ما هو أفضل مما نجده الآن.

استمر تواصلي مع هذه السيدة العظيمة لسنوات بعد تخرجي وآخر زيارة لها كانت قبل سنتين، زرتها في منزلها الجميل الواقع في قمة (جبل بنق لايز) الشهير المطل على المدينة وكانت يومها في الثامنة والتسعين من العمر. هذا النوع من الأساتذة في زماننا قليل ونادر قلما يجود الزمان بمثلهم.

قال أبوتمام:

هَيهَاتَ لا يَأتي الزَّمانُ بمثلهِ

إن الزَّمَانَ بمثله لَبَخِيلُ


مشاركة :